مرور 100 عام على نظرية آينشتاين النسبية العامة والسايوير 2015
المقدمة
أهلا وسهلا بكم في الحلقة الأخيرة لسنة 2015، ستحتوي على ثلاثة مواضيع، أولا، سأتحدث عن الحلقة السابقة عن الموسيقى في العلم، ثم عن مناسبة مرور 100 عام على النظرية النسبية العامة لـ آينشتاين ، ثم بعد ذلك سنستمع إلى آراء بعض الذين أرسلوا تسجيلاتهم لي عن طريق الأيميل، وسيكون ذلك خلال قصة آينشتاين عن النظرية النسبية العامة وبعدها.
عن حلقة الموسيقى في العلم
بداية أود أن أشكر جميع من تفاعل مع الحلقة السابقة وهي عن الموسيقى في العلم، فقد مست مشاعر الجميع إما إيجابا أو سلبا، وقد دفعهم إلى التواصل معي لشرح موقفهم من الحلقة، شكري لهم هو لأنه في كل الردود التي أتتني لم يسئ شخص واحد في الرد، الجميع كان محترما إلى أقصى الحدود حتى إن كانوا يختلفون (وهم القلة) مع محتويات الحلقة، وبصراحة ممتن جدا للجميع.
لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!
للعلم، بدأت في التجهيز لهذه الحلقة منذ بداية شهر 8 (أغسطس) إلى أن قدمتها في شهر 11 نوفمبر، عملت عليها أثناء سفري للسياحة، فقد كتبت مقدمة الحلقة آنذاك، وشرعت بقراءة المقالات العلمية وتصفيتها في تلك الفترة، وانتقيت أفضلها، وفي شهر سبتمبر انتقلت إلى مرحلة الجدية في العمل عليها، فقرأت المقالات، والكتب، والإنترنت، وذهبت أيضا إلى قسم الموسيقى في الجامعة بحثا عن مختص في الموضوع، كنت أهدف إلى نقل أقوى المعلومات التي ممكن أن أحصل عليها عن الموسيقى، بحيث يصعب – ليس فقط على الشخص العادي – الرد عليها، ولكن حتى المختص سيعاني في رده على المعلومات التي فيها. بصراحة، لا أستطيع أن أحصي عدد الأوراق العلمية التي قرأتها، والتي رفضت إدراجها لتخوفي – ليس من ضعفها بل – لأن المختصون سيستغلون اعتقادهم بضعفها.
السبب الذي جعلني أركز على هذه الحلقة وبهذا المستوى من الدقة هو أن لها رابط في الدين، وكنت أعلم أن أي معلومات رديئة ستجعل من الحلقة كيس ملاكمة… أعتقد أنني نجحت من الجانب العلمي، وأعتقد أيضا أن المستمع احترم الطرح القوي في تلك الحلقة، ولكن يبقى هناك البعض من عاتبني بأنني لم أتكلم عن الجانب الديني في طرحي لموضوع الموسيقى. وهذا طلب معقول، ولكن شعرت أنني لا أحتاج أن أقضي وقتي في شيء أغلب المستمعين يعرفونه كل من وجهة نظر العالم الذي يتبعه، لذلك أنا تفايد هذا الموضوع، وإن ذكرت خبرتي البسيطة في الموضوع.
مرور 100 عام على النظرية النسبية العامة
بعد أن انتهى آينشتاين من النظرية النسبية الخاصة ونشرها سنة 1905 لم ينته عمله، فقد كانت هناك مشكلتان لا تحلهما النظرية، المشكلة الأولى كانت تتعلق بسرعة الجاذبية، فمن المعروف أن سرعة الضوء هي القصوى، فكيف يمكن للجاذبية أن يكون لها التأثير اللحظي في الكون – كما كان يظن نيوتن، والمشكلة الثانية هي أن قوانين النسبية الخاصة لا تتعامل مع التعجل، فقد كانت تتعامل مع السرعات الثابتة. ولحل هاتين المشكلتين كرس آينشتاين 10 سنوات مضنية من حياته على نظرية مجال الجاذبية (ربما فقد تركيزه على النظرية النسبية العامة حينما دخل إلى عالم ميكانيكا الكم، ولكنه عاد ليواصل عمله على النظرية مرة أخرى)، وكادت أن تنزلق النظرية من الناحية الرياضية من يديه لتذهب لعالم آخر، ولكنه توج نهاية العشر سنوات ببحث غير نظرتنا للعالم كله، وكذلك غيرت نظرة الناس له بعد اكتشافه، حيث انفجرت شهرته بعد أن أثبتت نظريته.
في عام 1907 خطرت على ذهنه فكرة عبقرية، وهي الفكرة التي لقبها باسم “مبدأ التكافؤ” (Equivalence Principle)، فقد ربط آينشتاين بين التعجل والجاذبية، وابتدع تجربة تخيلية تبين كيف أنه لا يمكن التفريق بين الجاذبية والتعجل، فهما وجهان لعملة واحدة، فلو تخيلنا أن رجلا بداخل مصعد لا نافذة فيه، وبيده كرة، أفلت الكرة من يده، فإن توجهت إلى أرض المصعد، فإن الشخص الذي بالداخل لن يستطيع أن يعرف إن كان المصعد على الأرض ويتأثر بجاذبيته، أو أنه في الفضاء الخارجي ويتعجل مصعده صعودا، كيف له أن يفرق بين الإثنين؟ لن يستطيع. إذن، من هذه الفكرة التخيلية يتبين أن الجاذبية والتعجل متكافئان.
الآن لو تخيلنا أن المصعد في الفضاء الخارجي، وأن هناك ثقب في جانب المصعد، ودخل شعاع من الضوء من خلالها، هناك ثلاث احتمالات، فلو أن المصعد ثابت لا يتحرك (لا ننسى أن الحركة نسبية)، فإن الضوء سيدخل من الفتحة، وسيسقط على الحائط الآخر، بعد أن يعبر في خط مستقيم موازي لسطح المصعد، وفي الحالة الثانية هي لو أن المصعد يتحرك بسرعة ثابتة إلى الأعلى، فإنه الضوء سيعبر من الفتحة إلى الجانب الآخر في خط مستقيم، ولكنه مائل إلى الأسفل، وسيسقط على حائط الجانب الآخر، أما إن تعجل المصعد إلى الأعلى، فإن الضوء سيدخل في الفتحة، وسيتحرك إلى الجانب الآخر، وسيميل ليُكوّن قوسا إلى الأسفل. العجلة تقوس الضوء، وبما أن العجلة والجاذبية متكافئان، فإذن، الجاذبية ستقوس الضوء كما يقوم بذلك تعجل المصعد. فكرة عبقرية!
من هذه الفكرة تبين لـ آينشتاين أنه يستطيع أن يحل مشكلته، وقال: “أدركت أنني سأستطيع تمديد أو تعميم مبدأ النسبية لتطبق على الأنظمة المتعجلة بالإضافة لتلك التي تتحرك بسرعة ثابتة،” ثم ذكر بعد ذلك: “وأنه بعد أن أفعل ذلك، توقعت أنني سأكون قادرا على حل مشكلة الجاذبية في نفس الوقت.”
بقيت هذه الفكرة المبدئية معلقة لمدة 4 سنوات، حيث قضى آينشتاين الكثير من وقته في ميكانيكا الكم، وكلنا يعرف كم أقلقته النظرية، ولكنه عاد مرة أخرى للانعكاف على النظرية النسبية العامة سنة 1911، ونشر ورقة علمية في مجلة أنالين دير فيزيك (Annalen der Phyik)، (وهي نفس المجلة التي نشر فيها ورقته العلمية عن النظرية النسبية الخاصة)، حيث ذكر في المقالة تفصيلا أكبر عن تأثير مبدأ التكافؤ على الضوء، وكانت بعنوان “عن تأثير الجاذبية على تفشي الضوء”، ومنها قرر أنه يمكن إجراء تجربة تستطيع أن تثبت أن الجاذبية ستؤثر على الضوء لتجعله ينحني. وقام بحساب الزاوية التي ينعطف فيها الضوء بسبب جاذبية الشمس، وقد كانت هذه الزاوية هي 0.83 ثواني قوسية، أو 0.000231 درجة، زاوية صغيرة جدا، فحتى مع كتلة الشمس الهائلة إلا أن تأثيرها صغيرا جدا.
كيف نستطيع أن نقيس الزاوية التي ينحني بها الضوء بسبب الشمس؟ تخيل لو أن نجمة كانت خلف الشمس، لن نستطيع أن نراها لأن الشمس تغطيها (دعك الآن من أن الشمس منيرة ولذلك ستختفي النجوم، تخيل لو أن الشمس هي كرة سوداء، وأننا نحاول أن ننظر للنجوم ليلا)، إذن، لن نرى ضوء النجم بسبب تغطية الشمس لها، أشعة نور النجمة التي تأتي باستقامة منها ستصطدم بخلف الشمس ولا تأتي للعين، أما الأشعة التي تأتي على جانبي الكرة الشمسية فإنها ستعبر، ولكنها هي أيضا لن تأتي للعين، إلا إن كانت نظرية آينشتاين صحيحة، وهي أن الشمس تلوي الضوء، فإن كان كذلك فإن الضوء الذي يعبر بجانب الشمس سوف ينعطف ويتقوس ليصل إلى العين، وبذلك سنتمكن من رؤية النجم الذي تغطيه الشمس.
تبقى المشكلة الوحيدة في ذلك كله هي أن الشمس مضيئة، ونورها قوي بدرجة أنه لن نستطيع أن نرى النجوم، فاقترح آينشتاين أن تجرب هذه النظرية على الشمس وهي في حالة الكسوف، فنورها سيتغطى بالقمر، وسيكون بالإمكان رؤية تأثيرها على ضوء النجوم من خلفها. وأنهى ورقته العلمية بقوله: “بما أن النجوم في جزء السماء القريب من الشمس ستكون ظاهرة عندما تكون الشمس في حالة كسوف كامل، سيكون من المرغوب جدا من الفلكيين أن يأخذوا على عاتقهم السؤال.” طالبا من الفلكين إجراء التجربة لإثبات فكرته.
لم يكن بمقدور أحد أن يقوم بهذه التجربة حتى سنة 1914، حيث أن الكسوف الكلي لن يحدث حتى 21 أغسطس من تلك السنة، ولكن قرأ ورقة آينشتاني الفلكي إريون فنلي فوريندلينك (Erwin Finaly Fruendlinch) وأعجب بها، وقرر أن يقوم بهذه التجربة، وسيكون لنا موعد معه لاحقا، لنعرف الأحداث السيئة التي مر بها لمحاولته هو وفريق من الفلكيين إثبات نظرية آينشتاين.
بعد ذلك تحول آينشتاين لمحاولة وضع القواعد الرياضية التي تفسر نظريته للجاذبية، وبدأ برحلة أجهد فيها نفسه إلى حد الجنون، لم يستطع أن يؤسس للقوانين لأن النظرية كانت تحتاج إلى رياضيات لم يكن هو قادرا عليها، حيث كانت تعتمد على الهندسة غير الإقليدية، هندسة تضع في عين الاعتبار المنحنيات، خصوصا أن الكون الجديد الذي يفكر فيه آينشتاين لم يكن بالكون المعهود المسطح المستقيم، بل هو كون يتأثر بالجاذبية لينحني تحت ضغطها. حتى أنه بعد أن ذهب إلى صديقه الشاطر في الرياضيات الهندسية، وزميله في الدراسة مارسل غروسمان (Marcel Grossmann)، وقال له: “غروسمان، لابد أن تساعدني، وإلا سأصبح مجنونا.” كان ذلك في سنة 1912 في زيورخ.
غروسمان كان زميل آينشتاين في الدراسة بمعهد زيوريخ بوليتكنيك (Zurich Polytechnic) (هذا المعهد خرج 21 شخصية علمية حصدت جائزة النوبل، من بينها آينشتاين، ونيلز بور)، وحينما كان آينشتاين يتغيب عن فصول الرياضيات الهندسية كان يستعين بمذكرات غروسمان، وفي مادة الرياضيات الهندسية حصل آينشتاين على 4.25 من 6 نقاط في الدرجة النهائية في المادة، بينما حصل زميله على 6 من 6، درجة كاملة! وكذلك فقد ألف غروسمان مجموعة من الأوراق العلمية حول الهندسة غير الإقليدية، مما جعله الرجل المناسب لمساعدة آينشتاين. وحينما طلب منه المساعدة، قفز غروسمان لمد يد العون بحماس، حتى قال عنه آينشتاين بعدما شرح له ماذا ينوي أن يفعله: “لحظيا، كان مشتعلا.”
اقترح غروسمان استخدام الرياضيات الهندسية التي ألفها ريمان، وهي تسمى برياضيات مُوتًّرة أو ممتدة (Tensor Mathematics)، والتي تستطيع أن تصف العالم المنحني بشكل جيد، وهي رياضيات صعبة جدا، حتى على آينشتاين العبقري، وكذلك فإنهما اعتمدا على أفكار رياضييْن إيطالييْن آخريْن لحل معادلات الجاذبية (أود أن أنبه أنه الرغم من أني أبين أن آينشتاين كان ضعيفا في جوانب رياضية، إلا أن هذا الضعف هو بالمقارنة مع الفطاحل في الرياضيات وليس مع الرياضيين العاديين، فهو لم يكن ضعيفا بالرياضيات إلى تلك الدرجة التي من الممكن أن يتصورها البعض خطأ).
وفي نهاية سنة 1912 وضع القواعد الأولية لنظريته، عمل بجهد كبير، وسجل ملاحظاته حول عمله، وواجه الكثير من التناقضات في مساره إلى الحل، ولكن حتى الحل الذي وصل له لم يكن كاملا، وإن كان قريبا من الصحة، وبعد كل هذا الجهد توقف آينشتاين عن إيجاد الحل بالرياضيات الموترة لمدة عامين، واعتقد خاطئا أن المعادلات لا تأتي بالنتيجة المطلوبة، ولم يعد لها هذه إلا سنة 1915.
بدلا من ذلك قام هو وغروسمان بخط مسار رياضي جديد في سنة 1913، وكتبا ورقة علمية بعنوان: “الخطوط العريضة لنظرية نسبية عامة ونظرية جاذبية” (Outline of a Generalized Theory of Relativity and of a Theory of Gravitation)، وفي المكان الذي كتب فيه أسماء المؤلفين وضع آينشتاين نفسه كمؤلف للجزء الفيزيائي، وغروسمان كمؤلف للراضيات (وضعت رابط للورقة في الموقع تستطيع أن تراها بنفسك، أتمنى أن تلقي نظرة عليها لترى كم هي جنونية الرياضيات التي استخدمت فيها). واختصر اسم النظرية ليكون إنتورف (Entwurf) وهي الحروف الأولى في العنوان الذي كُتب باللغة الألمانية.
وبعد تأليف الورقة بعد عدة أشهر من العمل عليها بعث رسالة إلى ابنة عمه إيلسا (Elsa) التي تزوجها لاحقا يذكر لها ارتياحه: “أخيرا وجدت الحل للمشكلة قبل أسابيع، وهي امتداد جرئي للنظرية النسبية مع النظرية الجاذبية، لابد أن أعطي نفسي راحة، وإلا سأنهار.” ولكن سرعان ما فقد ثقته بالمعادلات، لأنه اكتشف أنها لا تعالج المشكلة بالشكل السليم، وبعد دراسته هو وصديقه ميكيلي بيسّو (Michele Besso) الرياضيات وكتابتهما لـ 50 صفحة من المذكرات اكتشافا أن القوانين لا تحل مدار كوكب عطارد الذي يتغير مداره بدرجة بسيطة كل 100 عام أثناء دورانه حول الشمس، وبعد عدة أخطاء لم يكتشفها آينشتاين إلا لاحقا، توقف عن إنتورف ورجع إلى معادلات الرياضيات الموترة التي هجرها.
منذ أن نشر آينشتاين ورقته عن انحناء الضوء بفعل الجاذبية سنة 1911 وقد كانت محل ريبة لدى العلماء، وكثير منهم لم يقبلها، لذلك كان من المناسب أن يكون هناك مخلص يثبت صحة ادعائه، وكما ذكرت أن ذلك الشخص هو الفلكي إريون فوريندلينك، وقد قرب موعد كسوف الشمس الكلي، وذلك في شهر أغسطس من سنة 1914.
كان الفلكي إيرون متحمسا لإقامة التجربة جدا، وقد بعث له آينشتاين رسائل كثيرة، واحدة تلو الأخرى كانت تحثه للقيام بالتجربة، يبدو أن آينشتاين كان مستعدا أيضا أن يمول جزء من الحملة من ماله الخاص، بعد أن تزوج إيرون، قرر أن يقضي شهر العسل بالقرب من آينشتاين، أراد أن يقابله، فتوجه الزوج إلى زيورخ على متن القطار سنة 1913، استقبلهما آينشتاين في محطة القطار، وكان في حينها يرتدي قبعة من القش، ثم توجهوا جميعا إلى مطعم، واكتشف آينشتاين أنه نسي أن يحضر نقودا معه، ومن حسن حظه أن مساعده كان لديه 100 فرانك، فقدمها له من تحت الطاولة، وبقي آينشتاين مع إيرون اليوم كله يتناقشان عن تأثير الجاذبية على الضوء.
تجهز إيرون وإثنان من زملائه للسفر بتاريخ 19 يوليو، وحملوا معهم أجهزة التصوير وانطلقوا إلى شبه جزيرة القرم في روسيا، والتحقوا هناك بفلكيين آخرين، وفي بداية أغسطس، وقبل الكسوف الذي كان سيحدث بتاريخ 21 أغسطس، بدأت بوادر الحرب العالمية الأولى في الظهور، حيث أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا، فقُبض على البعثة العلمية، وأودع الفلكيون السجن، ولكن حتى لو حظوا بفرصة تصوير الكسوف، فإنهم لم يكونوا لينجحوا، لأن السماء كانت ملبدة بالغيوم. ولربما كان ذلك من سوء حظ الفلكيين، ولكنه كان من حسن حظ آينشتاين، لأنه لو أقيمت التجربة، ولما وافقت نتائج حسابات آينشتاين، ولربما أًثبتت خطأ نظرياته، على الأقل من الجانب الرياضي. كان آينشتاين قلقا لحال إيرون، ولكن إيرون خرج من السجن بعد ذلك بأسابيع.
حينما بدأت الحرب بالاشتعال نادى آينشتاين الناس للالتزام الحث على السلم بدلا من الحرب، فقد كان يكرهها بشدة، أما بعض أصدقاءه من العلماء فقد كانوا يحرضون عليها، فقال في كلمة له: “نحن العلماء بالأخص لابد أن نحتضن التعاون الدولي، للأسف، أننا عانينا من خيبة الأمل حتى في أوساط العلماء من هذه الناحية.” حتى أن من أولئك العلماء الذين خيبوا ظن آينشتاين كان العالم الهائل ماكس بلانك (Max Planck)، الذي حاز على جائزة النوبل في الفيزياء لاحقا سنة 1918. وقد دخل آينشتاين في صراع سياسي مع العلماء على مر الوقت بعد ذلك.
أضف لانشغاله الذهني مع مشكلة الحرب والسياسة والأصدقاء الذين انجرفوا وراء صيحات الحرب، كان آينشتاين أيضا يعاني من مشاكل زوجية، فقد بانت بوادر انفصاله عن زوجته ميليفا ماريج (Mileva Maric)، وأيضا كان منقطع عن أطفاله، ولكن كل ذلك لم يمنعه من إكمال مسيرته لإيجاد حل صحيح للنظرية النسبية العامة.
في عام 1915 – وقد شارفنا على موعد مرور مئة عام لإعلان النظرية النسبية العامة – كانت هذه السنة ربما أكثر السنوات قلقا وحماسا لآينشتاين، كادت أن تفلت النظرية من يده لتحتضنها يد رياضي آخر، وهو ديفيد هيلبيرت، ولكنه تلقفها في اللحظة الأخيرة.
لم ينتقل آينشتاين إلى الرياضيات الموترة بعد، حيث لم يزل يعتقد أن نظرية الإنتروف كانت صحيحة، رغم أنه دخل في جدل مع علماء الرياضيات حول حساباته السابقة في الرياضيات الموترة (حيث كان بإمكانه أن يصلحها بعد اكتشافه للأخطاء)، ولم يقنعه أيضا الخطأ في حسابات مدار عطارد أن يهجر إنتورف (لكي يتخلص منها)، وبقي عليها حتى صيف 1915. وفي يونيو من ذلك العام ألقى محاضرات لمدة أسبوع مدتها ساعتين يوميا في جامعة غوتينغن (Gottingen)، ومن ضمن من حضر هذه المحاضرات كان الرياضي الألماني العبقري ديفيد هيلبرت (David Hilbert).
شرح آينشتاين فيزياء النظرية العامة لديفيد بحماس شديد، وأصبح صديقا له، حتى أنه في رسالة إلى أحد أصدقائه ذكر: “قابلته، وأصبحت مغرما به،” بغير علم أن العلاقة بينهما ستتوتر عن قريب، أقنع هيلبرت بالنظرية، وشرح له إياها وفهمه إياها بتفاصيلها الرياضية الدقيقة. فانطلق هيلبرت لكي يحاول أن يعالج المشاكل الرياضية على أمل أن يسبق آينشتاين، وبعد أن كُشف ستار الأخطاء لآينشتاين، وأكتشف وبلا أدنى شك أن نظرية إنتورف كانت خاطئة ازداد قلقه، أضف لهذا القلق قلق تسابق ديفيد بشراهة للوصول إلى حل صحيح بنفسه ولوحده. أحس أينشتاين أن تعمقه في النظرية جعله لا يستطيع الخروج من الحفرة التي حفرها لنفسها، كما ذكر ذلك في رسالة أرسلها للفلكي فوريندلينك: “لا أعتقد أنني قادر على اكتشاف الخطأ بنفسي، حيث أن عقلي ثبت في أخدود عميق”
ولكن آينشتاين بقي على أمله على أن يجد الحل، وأصر على أن يحل المعادلات، ورجع إلى رياضيات الموتر مرة أخرى، وهجر الإنتورف بسرعة. فقضى من أربعة أشد الأسابيع في حياته في تصحيح النتائج القديمة، وكما ذكر أنه عمل: “بشدة مرعبة” إلى أن وصل إلى شهر نوفمبر الذي كان سيقدم 4 محاضرات في الأكاديمية البروسية للعلوم ببرلين. فألقى الأولى بتاريخ 4 نوفمبر، ولم يكن قد توصل لحل النظرية النسبية بعد، وفي تلك المحاضرة شرح الأخطاء التي وقع فيها في الماضي لإيجاد الحل، وبين كيف أنه رجع إلى ما عمل عليه قبل عامين، وأخبر الحضور أنه هو وهيلبرت اقتربا من الحل الصحيح.
في تلك الأيام الغائمة بعث رسالة إلى ولده هانز ألبرت الذي لم يره منذ فترة طويلة يقول فيها:
“سأحاول أن أكون معك لشهر من كل عام حتى يكون لك أب محب لك وقريب منك، ستستطيع أن تتعلم مني الكثير من الأشياء الجيدة التي لا يستطيع أن يوفرها آخر غيري، الأشياء التي حزت عليها من العمل المضني لن تكون ذو فائدة فقط للغرباء، بل حتى بالخصوص لأبنائي، في الأيام الماضية انتهيت من واحدة من أعظم الأوراق في حياتي، حينما تكبر، سأخبرك عنها.” وأنهى الرسالة باعتذار: “غالبا ما أكون مندمجا في عملي فأنسى أن أتغدى” مصرحا بطريق غير مباشر عن سبب غيابه عن ابنه.
بتاريخ 11 نوفمبر قدم آينشتاين ورقة أخرى في محاضرة، وقد قام ببعض التصحيحات، ولكنها لم تكن كاملة أو حتى صحيحة، وفي تلك الأثناء كان يبعث برسائل إلى هيلبرت وفيها حلوله، وأفكاره، وفي الرد أرسل هيلبرت رسالة إلى آينشتاين أن هو أيضا لديه نظرية، وأنه سوف يؤخر النقاش معه فيها إلى تاريخ 16 نوفمبر، أقلقت آينشتاين هذه الرسالة بشدة، ولكنه علم من رسالة أخرى أرسلها له أن نظرية هيلبرت تختلف عن نظريته، لم يستطع آينشتاين مقابلة هيلبرت لآلام أصيب بها في بطنه، فبعث له رسالة يطلب منه أن يرسل له الإثبات الصحيح من دراسته.
وفي نفس الأسبوع، اكتشف آينشتاين الحل، وبعد حسابات لفلك عطارد خرجت من بطن المعادلات الإجابة الصحيحة، وانغمر آينشتاين بسعادة وإثارة جارفة، وبتاريخ 18 نوفمبر حصل على رسالة من هيلبرت شرح فيها نتائجه، وقد قدمها هيلبرت في محاضرة بتاريخ 16 نوفمبر، أي قبل استلام آينشتاين للرسالة بيومين، تضايق آينشتاين لأن عمل هيلبرت كان قريبا جدا من عمله، فأرسل له رسالة تبدي شيء من التعالي:
“النظام الذي قدمته يتوافق – بالحد الذي أراه – بالضبط مع ما اكتشفته في الأسابيع الماضية، وقد قدمت ذلك في الأكاديمية،” ثم يشرح له كيف أنه اكتشف هذه الأفكار سابقا، ولكنه هجرها ثم عاد لها، ويكمل: “اليوم سوف أقدم للأكاديمية ورقة حيث سأقوم باشتقاق من النظرية العامة كميا، ومن غير أي فرضية توجيهية، الحضيض الحركي لعطارد، لم تكن أي نظرية جاذبية قادرة على ذلك حتى الآن.” رد عليه هيلبرت بلطف، وأثنى على ذكائه وسرعته في الحسابات. في تاريخ 20 نوفمبر أرسل هيلبرت ورقة لمجلة علمية فيها معادلاته لحل النظرية النسبية العامة، اسمى الورقة بـ: “أسس الفيزياء”، هل نستطيع أن نعتبر هذه خيانة؟ لا أدري.
بتاريخ 25 نوفمبر قدم وتوج آينشتاين محاضرته الأخيرة بإكماله للنظرية النسبية العامة بعنوان “معادلات المجال للجاذبية”، وقدم معادلة من جانبين حول إشارة المساواة، شكل المعادلة بسيط جدا، ولكن عمقها الرياضي هائل جدا، معادلة صغيرة حوت في بطنها التواءات الكون تحت ضغط الجاذبية. عمل هائل لم تنخفض شعبيته ولا تطبيقاته العلمية إلى يومنا هذا، وستبقى معنا هذه القوانين الرياضية إلى فترة طويلة جدا، لن تتزحزح، كما لم تتزحزح قوانين نيوتن التي أظلتها نظريات آينشتاين بمظلتها الأوسع.
بقيت مخاوف أينشتاين من أن يشاركه هيلبرت في عظمة الاكتشاف، خصوصا بعد نشره للورقة العلمية التي سبقته، ولكن اُكتشف لاحقا أن هيلبرت كان مخطئا في الورقة التي أرسلها، وقد قام بتصحيحها لتوافق نتائج آينشتاين، بعثها للمجلة مرة أخرى بعد الورقة الأولى بشهر، أي بتاريخ 16 ديسمبر، وأضاف في الورقة المعدلة جملة: “قُدمت من آينشتاين أولا.” وبذلك ينفرد آينشتاين في الاكتشاف، وإن كان الكثير من نتائجه تعتمد على مساعدات قدمها له أصدقاؤه العلماء الأفذاذ. إلا أنه لابد من الاعتراف أن آينشتاين هو الذي أسس لمبادئ فيزيائية تفوق خيال الشخص العادي، وأن لولاه لما كان حتى للرياضيات التي تصف تلك الأفكار مكانا في الفيزياء. ويقول العالم الفيزيائي المعاصر كيب ثورن، والذي عمل على كتابة قصة الفيلم انترستلر معتمدا على خبرته في فيزياء الجاذبية: “من غير آينشتاين، فإن القوانين الفيزيائية النسبية للجاذبية لم تكن لتكتشف إلا عشرات السنوات بعد ذلك.”
للعلم، الموضوع الذي طرحته في هذه الحلقة اعتمد وبشكل مباشر وكبير على كتاب “آينشتاين، حياته وكونه” (Einstein: His Life and Universe) [1]Einstein: His Life and Universe للكاتب Walter Issacson، قد يعرف بعضكم هذا المؤلف الشهير.
أصوات المشاركين
طلبت من المستمعين أن يسجلوا أصواتهم بأفضل حلقات السايوير برأيهم، وكذلك ما يتمنونه من حلقات في سنة 2016، وأن يبدو آراءهم بشكل عام. سمعتم بعض هذه الأصوات من صديقي عمر البدران من المملكة العربية السعودية في مقدمة الحلقة، وتخللت الأصوات باقي الحلقة، والآن نكمل الاستماع للأصوات الأخرى. شكرا جزيلا لجميع المشاركين.
المصادر
↑1 | Einstein: His Life and Universe |
---|
عندي ملاحظه ع تطبيقكم ع الايفون فخاصية الإيقاف المؤقت والإرجاع والتقديم للمقطع لاتعمل واعتقد أنكم غير مهتمين بتحديث التطبيق لان اخر تحديث له سنه٢٠١٣!!
شكرا سعاد. ربما يكون من الأفضل استخدام تطبيق Podcasts على الآيفون. ابحثي عن السايوير واضيفيه. سيكون أفضل. شكرًا على التعليق.
شكرا لك لك دكتور على هده الحلقه وعلى حلقات السايوير لم استطع وصف شعوري وانا استمع و استمتع بالحلقات . واعمل جاهدا لتحبيبها لابني ذو ٨ سنوات رغم الصعوبات الماديه وفقك الله
كمال الكزولي من المغرب
اود ان اشكرك على المحتوى الرائع المتميز في الطرح
شدني مقطع الاوبرا الذي وضعته بعد تعليقك على حلقتك السابقه الموسيقى و العلم.
ممكن اسم القطع او رابط
السلام عليكم دكتور
بحثت عن الورقة التي فيها الرياضيات المستعملة في الخطوط العريضة للنظرية النسبية العامة و التي وصفتها بالجنونية ولكني لم اهتدي اليها
فاين اجدها فهي لا تتواجد في المحتوى المفرغ للحلقة وشكرا
عادل من الجزائر