SW087 زرع ذاكرة زائفة في مخ الفئران
زرع ذاكرة زائفة في مخ الفئران
التطورات التي تهز المجتمع العلمي والتي ستكون أساسية في المسقبل القريب هي المرتبطة في حقل المخ، واليوم سأتحدث عن زرع ذاكرة كاذبة في مخ فئران لتتذكر حدثا لم تجربه أبدا. وسأتحدث مدى سهولة وقوع ذاكرة الإنسان في الخطأ، ولكن قبل أن أبدأ سأستعرض لك مجموعة من الكلمات استمع لها: فراش، راحة، يَقِضْ، متعب، حلم، إفاقة، غفوة، بطانية، نعس، قيلولة، سبات، سِنة، هدوء، تثاؤب، دوخة. سنعود لهذه الكلمات لاحقا.
قام العلماء بتغيير ذاكرة الفأر ليتذكر شيء لم يفعله من قبل، لا يُقصد من هذه الزراعة عملية سيكولوجية قام بها العلماء، بل إنها كانت طريقة لإدخال المعلومات في المخ مباشرة. لتصبح لدى الفأر معلومات لم تأت له من العالم الخارجي ومن خلال أدوات الحس الخاصة به أو من خلال تجربته الشخصية.
لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!
هناك الكثير من الأفلام التي يتم فيها تغيير ذاكرة شخص إلى ذاكرة أخرى عن طريق زرعها مباشرة في الرأس. وواحدة من أشهر الأفلام التي لا شك شاهدها الكثير من المستمعين هو فيلم ذي ميتكريكس (The Matrix)، وهو من أشهر الأفلام التي أنتجت في تاريخ هوليود، وفي هذا الفيلم يستخدم الروبوت أو الذكاء الاصطناعي الإنسان لإنتاج الطاقة، حيث لم تعد هناك مصادر أخرى بديلة، فتنشئ هذه الروبوتات مزارع بشرية هائلة، وفيها يتم تويلدهم بداخل قواقع، ومن جسم الإنسان تستخلص الطاقة الكهربائية، فيكبر الإنسان بداخل هذه القواقع ويعيش فيها طوال حياته، ولكي يتمكن الإنسان من العيش بداخل هذه القواقع يُوفر له الغذاء والبيئة المناسبتين لإبقاء جسده حيا، أستطيع أن أقرب الصورة هذه بالجنين في بطن أمه. بيئة كاملة موفرة له من ناحية التغذية، ولكن لم تغفل الروبوتات الجانب الآخر من الإنسان هو الحياة النفسية والاجتماعية، فهو كما يحتاج للغذاء فهو أيضا يحتاج لتغذية العقل، فتتم تغذيته مباشر عن طريق وصلات إلى المخ من الخلف، فتخلق له بيئة كاملة بالداخل، فكل ما يعرفه إنما هو تصور من بيئة افتراضية، فتُصور له البيئة هذه وكأنه يعيش في العالم الخارجي. وإن لم تكن الحقيقة كذلك. فكل حياته الشخصية والاجتماعية والنفسية وذاكرته كلها واقع افتراضي.
وكذلك هناك العديد من الأفلام التي يتم فيها تغيير ذاكرة الإنسان، ومنها فيلم بي تشك (Pay Check)، وهنا أيضا يتم تغيير ذاكرة الشخص ليتم مسح بعض المعلومات فيها بانتقاء خلايا محددة وتعطيلها. وكذلك فيلم توتال ريكول (Total Recal) حيث يتم زرع ذكريات في ذهن الشخص مباشرة، وأيضا فيلم الأرض ساحة المعركة (Battlefield Earth) للمثل جوترا فولتا، حيث يتم زرع المعلومات بسرعة كبيرة بداخل عقل الشخص. وهذه كلها أفلام خيالية، ولكن هل الواقع يختلف؟ اليوم العلم بدأ خطوات جديدة في زرع ذاكرة زائفة في مخ الفأر، ولربما ستكون هناك تطبيقات مستقبلية يتم فيها تغيير ما بداخل مخ الإنسان ليتذكر ما لم يقم به شخصيا.
العلماء في جامعة إم آي تي (MIT) زراعوا الخوف من صدمة كهربائية في مخ فأر مباشرة، حيث أنهم وضعوا الفأر في غرفة وجعلوه يستكشفها، وكانت الغرفة مريحة لا مشاكل فيها، وبعد ذلك أخذوه إلى غرفة أخرى وعرضوه لصدمة كهربائية خفيفة، مما جعله يخاف من الغرفة الثانية، وفي نفس هذه الغرفة المزعجة وأثناء الصعقة الكهربائية أثاروا الخلايا العصبية لترتبط المخاوف مع الغرفة الأولى المريحة، وبعد أن زرعوا الذاكرة الزائفة في مخه نقل إلى الغرفة الأولى، فتجمد الفأر من شدة الخوف، فأصبح يعتقد أن له تجربة سيئة في الغرفة الطبيعية، وإن لم تحصل له هذه التجربة نهائيا.
كيف استطاع العلماء من التأثير على الفئران؟ قام العلماء بإنتاج فئران معدلة جينيا، بحيث تتأثر خلايا المخ بالضوء، وحينما تُعرض خلاياهم العصبية للضوء فإنها تنتج بروتين يسمى بتشانل رودوبسين (Channelrhodopsin)، هذه البروتينات تتكون إوتوماتيكيا حينما تتكون الذاكرة في الخلايا، بعد ذلك أوصل العلماء المخ بألياف ضوئية مباشرة في المخ، وحتى يثيروا تلك الخلايا يقومون بإساقط ضوء أزرق مباشرة عليها، فتثار هذه الخلايا وتنتج مادة التشانل رودوبسين.
حينما أدخلوا الفأر إلى الغرفة الأولى تكونت الذاكرة عن الغرفة الطبيعية التي لا توجد فيها الصدمة الكهربائية أنتج المخ بروتين التشانل رودوبسين، وسجل العلماء القراءات من المخ حتى يعرفوا المنطقة التي تكونت فيها الذاكرة عن الغرفة المريحة، وكذلك حينما وضعوا الفئران في الغرفة الأخرى علموا أين تكونت الذاكرة التي تخيفهم، فعرّضوا منطقة الهيبوكامباس والتي تكونت فيها الذاكرتين للضوء بحيث يتم الربط بين الخوف وبين الغرفة الطبيعية، وهكذا زرعت ذاكرة لم تكن موجودة في مخ الفأر سابقا. وأسمى العلماء هذه الطريقة لزرع الذاكرة في الخلايا مباشرة بإنسيبشن (Inception)، وهي مشتقة من الفيلم الشهير الذي يتم فيها زرع الذاكرة عن طريق الأحلام.
أرسلت لي مقالة في منتهى الروعة تحت عنوان “عقل الأنا” أو الأنا في العقل (The Mind’s I)، تحت الباب 26: “محادثة مع مخ آينشتاين” حررها وعلق عليها الفيلسوفان دوجلاس هوفستيدر (Douglas Hofstadter) ودانيال دنيت (Naniel Dennett)، حيث يتم نقاش بين سلحفاة وأكليز (Achilles)، وفي هذه المناقشة الطويلة الرائعة تضرب السلحفاة مثالا على المخ قد يقرب معنى زرع المعلومات فيه مباشرة، وهي أن المخ كالأسطواة، فيها منخفضات ومرتفعات بداخل أخاديد شُقت على سطحها، حينما تمر عليها الإبرة وتلتقط اختلافات السطح تحولها إلى صوت باستخدام المكبر الصوتي تبيانا لما تحتويه الاسطوانة من صوتيات، وإذا أردنا أن نسجل صوتا على الأسطوانة فإننا نكون هذه الأخاديد بمرتفعاتها ومنخفضاتها.
من المؤكد أن المخ ليس كالأسطوانة حيث أنه جسم حي متغير بشكل دائم ومستوى التعقيد في المخ لا يمكن وصفه في العصر الحالي ناهيك عن مقارنته بالاسطوانة البسيطة، المخ حينما يحتفظ بالمعلومات فهو لا يحتفظ بها كالأسطوانة والهارد ديسك، وحينما نتذكر شيئا فإننا نعيد بناء التجارب التي مررنا بها، فالذاكرة متغيرة وفي كل مرة نعيد التذكر تتغير المعلومات، وقد ذكر العالم ستيف رميريز (Steve Ramirez) الذي غير ذاكرة الفئران هذا الكلام بنفسه في مقابلة ببرنامج الساينس فرايدي (Science Friday) ولكن من غير المستبعد أن يكون تسجيل المعلومات في المخ لها آلية يمكن القيام بها بأدوات تكنلوجية كما يحصل في الاسطوانة وإن كانت بمستوى أعقد بكثير، وقد بينت تجربة زرع المعلومات في مخ الفأر هذا الشيء بالضبط. ولكن تبقى الكلمة الأخيرة في مثل هذه النتائج للعلماء.
ماذا يعني أن تكون هناك إمكانية للتلاعب في الذاكرة بهذه التقنية، “دراستنا بينت أن الذاكرة الزائفة والذاكرة الحقيقية ترتكزان على آليات دماغية متشابهة، تقريبا متطابقة، من الصعب على حامل المعلومات الزائفة التفريق بينها، ونتمنى أن اكتشافاتنا المستقبلية في هذا الخط ينذر المشرعين والخبراء في القانون مدى عدم جدارة الذاكرة.” يذكر الدكتور تونجاوا (Susumu Tonegawa) رئيس الفريق الذي عمل في تجربة الفأر. وهذه ربما تكون من أهم ما تأتي به مثل هذه الأكتشافات عن المخ، فصحيح أنه أصبح ممكنا تغير المعلومات في المخ، إلا أن ذلك ربما سيكون قادما في المستقبل، ولكن في المرحلة الحالية نستطيع أن نفهم من خلال آلية الذاكرة وبالأدلة العلمية الدقيقة أن الذاكرة تشوبها الكثير من الأخطاء.
تغيير الذاكرة سيكولوجيا
من خلال هذا البحث يُفهم أن ذاكرة الإنسان يمكن التلاعب فيها، وهذا معروف من الناحية العلمية حتى قبل أن يتم الوصول لها عن طريق الخلايا العصبية مباشرة، فالكثير من الناس الذين تتم محاكمتهم يتعرضون لمحاكمات غير عادلة معتمدة على ذاكرة شخص أو عدة أشخاص، والكثير من المتهمين يقبعون في السجون انتظارا لتخليصهم باستخدام فحص قائم على أدلة جنائية حديثة، بعض المتهمين الذين أفرج عنهم بعد بقائهم في السجن سنوات عديدة بتهمة زجوا في السجن اعتمادا على ذاكرة كاذبة، وتبين بعد ذلك زيف المعلومات والتهم الموجهة لهم، ومنهم المتهمين بالاغتصاب مثلا، حيث أفرج عنهم بعدما استخدم الدي إن إي (DNA) كدليل لا يمكن إنكاره.
يذكر الدكتور مايكل شيرمر في كتابه “المخ المعتقد” (The believing Brain) أن الكثير من المختصين في التنويم المغناطيسي ومن خلال الأسئلة الإيحائية لوثوا ذاكرة بعض من الناس ليتذكروا أمورا لم تحدث لهم، فخذ على سبيل المثال أن البعض ممن عُرضوا للتنويم المغناطيسي ادعى أنهم رأوا فضائيين (UFO)، وتذكروا أشياء لم تحصل لهم، وعادة ما تستخدم طريقة تسمى بالتراجع المغناطيسي (Hypnotic Regression) (قد لا أكون ترجمت الكلمة بالشكل الصحيح) للتأثير عليهم، وفي هذه الطريقة يَرجِع المنوم المغناطيسي بالمريض في الزمن باستخدام خياله، ثم يطلب منه عرض هذه الذكريات على شاشة العقل. فتُكون هذه صورا جديدة لم تكون موجودة في ذهن الشخص.
وكذلك بعض المحاكمات التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية والتي اسَتخدمت التنويم المغناطيسي لاسترجاع ذاكرة لم تكن موجودة في الأصل، لقد سجن بعض الآباء باستخدام التنويم المغناطيسي، وفي الحقيقة فأن هذا الأسلوب في استرجاع المعلومات لا علاقة له بالطريقة التي يتم فيها تخزين المعلومات في المخ، حيث أن المخ لا يعمل كشريط فيديو يستعرض المعلومات لكي تُسترجع، بل إنها تقوم بزرع أفكار لم تكن موجودة في الأساس.
هل يمكن الاعتماد على الذاكرة؟
الكثير من التجارب تدل على أن الإنسان يخطئ في تذكر المعلومات، فالإنسان يجد صعوبة في تذكر كل شيء يصل إلى عقله من خلال حواسه، فعلى سبيل المثال أنت لا تتذكر كل الخمسة عشر كلمة التي ذكرتها لك في البداية، ولكن ليس المهم أنك تتذكر، المهم هو الطريقة التي تتذكر فيها المعلومات، فنحن لا نحفظها كما يحفظ الكمبيوتر المعلومات: حرفا بحرف، وصورة كل حرف بتتابع، نحن نحفظ الأشياء عن طريق ما نتعرف عليه على أرض الواقع مضافا إليه الكيفية التي نربط بها تلك المعلومات، هل تذكر كلمة “نوم” من ضمن قائمة الكلمات؟ حاول أن تسترجع الكلمات الآن، إذا تذكرت الكلمة هذه فاعلم أنها غير موجودة في القائمة، بل إن ذاكرتك خانتك، والتجارب تدل على أن هذا الخلل يقع فيه 40% من الناس. لماذا أخطأت في المعلومات، لأنك حينما أردت أن تتذكر الكلمات أنت تحاول أن تتذكر كل واحدة منها على حدة، بالإضافة لذلك أن تحاول فهم المعنى الإجمالي لها بترابط الكلمات ببعضها، وبهذا أعدت تكوين ذاكرتك بناء على ما تتوقع أن يكون موجودا في القائمة، فأصبحت كلمة “نوم” من ضمنها. نحن لا نحفظ جميع التفاصيل بل نحفظ بعضها مع المعاني العامة.
في تجربة أقامها عالما السيكولوجي وليام بروور (William Brewer) وجيمس تريننز (James Treyens) تبين كيف تقوم الذاكرة بخلق أمور لم تكن موجودة في الواقع، طلبوا من متطوعين أن يجلسوا في مكتب الدراسات العليا لمدة دقيقة واحدة حتى يفرغ المُختبِر من عمله، وبعد ثلاثين ثانية عاد المختبر، ونقلهم إلى غرفة أخرى وطلب منهم ملأ استمارة بما رأوه بداخل الغرفة التي كانوا فيها قبل قليل، فتذكر البعض شيئا مما كان موجودا، وأضاف البعض أمورا أخرى توقّعوا أن تكون موجودة، مثل مكتبة تحتوي على الكتب وكابينة، ولكن المكتب لم يحتوي لا على كابينة ولا على مكتبة. لماذا أضيف هذه المعلومات؟ لأن المتطوع كان يتوقع أن يراها في أي مكتب تقليدي، فتذكر وجودها فيه.
قد تتصور أن 30 ثانية هو زمن صغير جدا، ولكن هل تتذكر حدث مهم في حياتك، ربما عن حادث سيارة أو شجار أو غيرها، وتعود لأصدقائك لتحكي القصة، كانت مدة الحدث قصيرة جدا، ربما ثوان معدودة، هل تذكر التفاصيل الدقيقة؟ ربما تعتقد ذلك، ولكن التجارب تبين أنك مخطئ.
ربما أنت لا تثق في الذاكرة تماما، وتعتقد أنك فعلا لا تستطيع أن تتذكر تفاصيل كل شيء، فهناك أشياء مهمة وهناك أشياء أقل أهمية، فالأشياء المهمة تتذكرها بدقة متناهية – وخصوصا فيما يتعلق بالذكريات التي التصقت التصاقا وثيقا من خلال عاطفة معينة، تكون قد ثبّتت لك الصور في ذهنك، وربما تدعي أن هذه الصور لا يمكن نسيانها طوال عمرك وهذه تسمى بذاكرة مصباح الفلاش (Flashbulb Memory).
قد تجلس مع أبيك فتسأله عن أحوال الناس في زمانه، فيتذكر بدقة تفاصيل البناء والجيران وجلسته مع أصدقائه أمام الدكان، ولعبه معهم في الشوارع وفي البحر، ويتذكر زواجه من والدتك، ويتذكر ولادتك، وهذه الذكريات هي التي بقيت معه بدقة لأنها ارتبطت بعواطف جياشة لتحمل الدقة في راحتها، ولكنه مخطئ في الكثير من الأمور، ولو أنك تسأل أصدقاءه عن نفس التفاصيل لوجدت أنهم يختلفون معه، كل له ذكريات مختلفة في التفاصيل، وفي حال تعارض المعلومات لا يمكن الاعتماد عليها كلية لتأكيد صحتها من أي طرف كما يُذكر في كتاب الغوريلا الخفية (The Invisible Gorilla).
ذاكرة مصباح الفلاش يقصد بها أن الذاكرة حينما تكون مرفقة بأحداث مفاجئة ومهمة عاطفيا فإنها تكون واضحة وتفصيلية. والاصطلاح يأتي من الصورة التي يتم تصويرها لتحتوي على التفاصيل الدقيقة، ولكن المخ لا يتذكر التفاصيل كالصورة، الحقيقة أن ما يتذكره الشخص في تلك الأحداث هو بنفس الدقة التي يتذكر فيها الأحداث الأخرى المعتادة، ولكنها تختلف عن الذكريات الأخرى في أن مالك الذكريات يؤمن إيمانا كاملا بدقتها، وإن كان ذلك وهما، وكلمة مصباح الفلاش هي كلمة قديمة لم يعد استخدامها لثبوت عدم دقيقة.
هل تتذكر أحداث 11 سبتمبر لما اصطدمت الطائرتين في مبنيي مركز التجارة العالمي؟ ذلك كان حدثا تأثر منه ويتذكره الكثير من الناس، ولكن لا أتصور أن يتأثر غير الأمريكي بنفس مستوى تأثر الأمريكي، وربما من أكثر من تأثر بالحدث هو الرئيس الأمريكي جورج بوش، كان حينها يقرأ قصة على مسامع أطفال في مدرسة، حينما اقترب منه رئيس الأركان ليهمس في أذنه خبر اصطدام الطائرة الثانية، جورج بوش علِم باصطدام الطائرة الأولى قبل دخوله إلى الصف، ولكنه كان يعتقد أن اصطدام الطائرة الأولى حصلت خطأ.
نأتي الآن لما قاله جورج بوش في العلن، ذكر أنه رأى اصطدام الطائرة الأولى على شاشات التلفزيون في الأخبار قبل دخوله إلى الصف، وذكرت أنه ظن أن الاصطدام كان بسبب طيار سيء، فلم يعر الخبر اهتماما كبيرا، نتساءل، هل يمكن لجورج بوش مشاهدة اصطدام الطائرة الأولى على شاشات التلفزيون؟ بالتأكيد لا، لأن لقطات تصوير اصطدام الطائرة الأولى لم تكن متوفرة نهائيا ولا حتى على شاشة واحدة في التلفزيون، ولم تظهر الصورة قبل 12 ساعة من الحدث، إنه خطأ في ذاكرة الرئيس الأمريكي، مع أن الحدث كان مرفقا بالعواطف الجياشة. مع أنه يعتقد أنه فعلا رأى بعينية الحدث.
أعطيكم مثالا حصل معي قبل أيام، كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء عن الفرسخ الفلكي المستخدم لقياس المسافات الشاسعة، والذي يطلق عليه كلمة بارسيك (Parsec) باللغة الإنجليزية، وذكرت لصديقي أن هذه الكلمة – وأنني أتذكر تماما – أنني قرأت كلمة بارسك بأنها أتت من اللغة العربية، أتذكر أنني قرأت هذه المعلومة في مكان ما على الإنترنت، صحيح أنني وبكل ما أوتيت من قوة أحاول أن أكون دقيقا (ولذا تجد أنني أكتب البودكاست حتى أستطيع أن أنقل العلم بدقة، وكذلك أجد نفسي مصححا للمعلومات إذا ما اكتشفت خطئي فيها) إلا أنني أخفقت.
شككني صاحبي في المعلومة، وبسرعة أخرجت الآيفون من جيبي وبحثت عن كلمة بارسيك، ووجدت أن الكلمة في الحقيقة اشتقت من (Parallax of one arcsecond)، لو تأخذ بدايات الكلمتين parallax و arcsecond، وأوصلتهما ببعضهما لحصلت على Parsec، وهي كلمة صيغت سنة 1913 عن طريق العالم الفلكي البريطاني هيربرت هول ترينر (Herbert Hall Turner)، والكلمة العربية ليست إلا ترجمة لها معتمدة على الفرسخ العربي الذي لا يكاد يستخدم اليوم. وهذا خطأ بسيط، ولكنه محرج بالنسبة لي ومزعج بشكل لا أستطيع أن أصفه، فاعتذرت منه مباشرة وصححت المعلومة، كم من هذه الأخطاء تحصل لدى الكل، وتمر مرور الكرام بلا أدنى دراية؟
أضف لذلك أننا أحيانا قد نكوّن ذاكرة كاملة ليست لنا نهائيا، إنما حصلت لشخص آخر، وقد تقص قصة معينة على مسامع أصدقائك، وتعيدها وتكررها مرة تلو الآخرى، حتى تكتشف لاحقا أنها ليست لك، إنما كانت هذه لابن عمك، ولكن اختزلتها في ذاكرتك، حتى أنك لا تستطيع أن تفرق بين ما حصل لك وما حصل فعلا، وهذه تسمى بفشل مصدر الذاكرة (Failure of source memory). وهناك دراسات أخرى تشير إلى أن الإنسان ينسى كلما تقدم الوقت أكثر، وهناك أيضا ما يدل على أن الناس تغير آراءها مع مر الوقت، ولكنها لا تدري أنها غيرت رأيها، وتعتقد أن رأيها ثابت لم يتغير عن السابق. والمشكلة أن التفاصيل التي نتذكرها تشعرنا بأنها ذاكرة حقيقة، ولكننا مخطئين.
الدراسات في التاريخ والأحاديث لابد أن تدخل من ضمنها الدراسات السيكولوجية ودراسات المخ لفهم قدرة الإنسان على التذكر، فصحيح أن البحث في الرجال يؤثر على صدق المعلومات المنقولة، ولكن لابد من فهم كيفية عمل الذاكرة حتى يتم الربط بينها وبين ما يمكن استرجاعه بالشكل الصحيح، حتى لو كان الشخص صادقا في نقل المعلومة، لا يعني ذلك أنه لا يخطئ، بل الأسوء من ذلك أن الشخص قد يتصور أنه يتذكر، ولديه الثقة المطلقة أنه تذكر الحدث بدقة، ولكنه قد مخطئا. أضف لذلك أن المعلومات وإن استرجعها من الذاكرة بدقة، فذلك لا يعني أنها صحيحة أبدا، فقد تكون ملوثة وقد تم التأثير عليها بإقحام أفكار أخرى.
هناك دراسة أقامها داريو ساتشي (Dario Sacchi) وزملائه [1]Memory Can Be Manipulated By Photos ، على 299 متطوع بين العمر 19-84 سنة، أروهم الصورة الشهيرة للشاب الذي وقف أمام الدبابة في ساحة تيانامن في الصين، ربما رأيت أنت الصورة أيضا، ستجد شابا يقف أمام صف من الدبابات واحدة خلف الأخرى، الصورة تحتوي على الشاب والدبابات فقط (بعض الصور التي لم يتم قصها ستجد أناس بعيدين في الخلف)، قبل يُري العلماء الصورة للمتطوعين عدلوا عليها لتحتوي على جمهور كبير من الناس على جانبي الشارع بالقرب من الشاب الذي وقف أمام الدبابات، وبعد فترة وجيزة قام العلماء باختبار المتطوعين، وسألوهم عن معلومات تاريخية عن ساحة تيانامن، فاكتشفوا أن المتطوعين كانوا يعتقدون أن عدد الناس في الساحة كان كبيرا. بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك، حيث ظنوا أن الساحة امتلأت بالشغب والعنف الشديد بأكثر مما حدث فعليا، من أين أتت هذه المعلومات الإضافية؟ وكيف تكونت ذاكرة زائفة؟ هذه تحدث كثيرا حتى في الوقت الحالي، حينما تنشر مجلة على الإنترنت صورا خاطئة، فتزرع هذه الصورة ذاكرة خاطئة في الناس عن واقع لم يحدث.
من الممكن الاستفادة من هذه الأبحاث من الناحية الإحصائية، وقد ذكرت أن 40% من الناس يتذكرون وجود كلمة معينة من ضمن مجموعة الكلمات التي ذكرتها في البداية، وهذه إحصائية قد مهمة في احتساب دقة المعلومات التاريخية، وبالتأكيد هناك الكثير من الدراسات الأخرى التي تحتوي على إحصائيات لا حصر لها والتي يمكن الاستفادة منها لتشكيل فكرة واضحة في جودة المعلومات، ولربما أن معرفة كيفية ربط الإنسان للمعلومات في الذهن تعطي انطباعا عن كيفية ترابط الكلمات مع بعضها البعض فيمكن البحث والتدقيق فيها.
وقد نتصور أن إجماع أشخاص على حادثة واحدة قد يعني أن الموضوع لا شك فيه، ولكن الدراسات تبين حتى في هذه الأمور المعلومات الخاطئة تدب في وسط المعلومات الصحيحة فتلوثها، وإذا كانت المعلومات تتغير حتى في حياة شخص واحد فقط، فماذا يمكن القول عن معلومات وصلت من سلسلة من الأشخاص كل منهم تشوبه نفس الشوائب في قدرته على التذكر وفي اطمئنانه وثقته في معلوماته رغم خطئها، وفي تلك الأيام لم تكن أدوات الإنترنت والتسجيل الصوتي والمرئي وتخزين وتوزيع المعلومات متوفرة، كل ما هو موجود لدى الناس هو المخ الذي لدينا الآن، وهو يستقبل المعلومات من الحواس كما نستقبلها نحن، وتخطئ كما نخطئ نحن، ربما كان لديهم شيء يسير جدا من التدوين، ولذا لابد أن يوضع تحت التقييم بالمقاييس العلمية التجريبية الدقيقة. لابد أن تدرس مثل هذه المواد في المدارس المختلفة لفهم كيفية عمل مخ الإنسان، فإذا كانت الإيحاءات البسيطة، والأخطاء الطفيفة، والذاكرة الضعيفة كلها تؤثر على المعلومات في خلال دقائق فكيف بها في خلال سنوات عديدة من عمر الإنسان.
أنا لا أدعي أبدا أن المعلومات التي أتت إلينا تاريخيا خاطئة أن أو الباحثين فيها لم يعرفوا كيف يمشطوا الشوائب منها، لكن أردت أن أبين أنه كلما ازدادت أدوات البحث كلما كانت المعلومات أدق (أضيف أن إحدى الطرق التي سمعت عنها في بودكاست فلسفي “Philosophy Bites” أن هناك مدرسة جديدة بدأت بالتحرك على التاريخ لإثبات أحداث تاريخية تجريبيا، قد لا تتصور كيف يمكن لأحد أن يقيم تجربة على شيء قد مضى، ولكن حصل هذا بالفعل، باستخدام الكمبيوترات، وسأدع هذه المعلومة لبودكاست آخر في المستقبل)
عودة لتجربة الفأر
نعود مرة أخرى لتجربة الفأر، ماذا يمكن أن نستفيد من هذه التجربة اليوم؟ الآن العلماء يستطيعون الوصول إلى ذاكرة محددة بدقة كبيرة ومن ثم التعديل عليها لاشك أن في المستقبل ستكون هناك تعديلات على ذكريات البشر، من الواضح أن مثل هذه الأمور ستحدث، ويذكر الباحثين أن آليات تكون الذاكرة في مخ الفأر والإنسان متشابهة، كيف يمكن لنا أن نستفيد مباشرة منها؟ واحدة من الأمراض النفسية التي من الممكن علاجها قريبا بهذه الطريقة هي مرض “اضطراب ما بعد الصدمة” (Post Trumatic Stress Disorder)، حيث يمكن فك الربط بين الحالة العاطفية والاضطراب الذي حدث في حياة الشخص، أو من الممكن تغيير العاطفة السلبية بأخرى إيجابية أو محايدة.
ربما لن يكون ذلك في الأيام القليلة القادمة، ولكنه سيكون في المستقبل القريب، ولكن ستبقى هناك مشكلة واحدة، وهي قبول المريض أن يتم فتح رأسه لإصلاح ما بداخله، وهذه ربما ستأخذ بعض الوقت حتى يجد العلماء طرق غير مباشرة للتأثير على خلايا المخ، حتى ذلك الحين ننتظر تجارب أخرى بنفس مستوى العجب.
المصادر
من العايدين بعد الزحمه 🙂
اعتقد ان فشل مصدر الذاكره حصل لي امس!! وعجيب ان ادخل الليله لابحث عن تحديث في برنامج البودكاست فاجد موضوع يفسر لي ما حدث !!! -هل تتواصل مع متابعيك بالتخاطر؟! 🙂 –
القصه ان عائلتي سافروا قبل عدة اشهر ، وفي طريقهم توقفوا عند متنزه ودخل والدي ‘الله يحفظه’ الى ادارة المنتزه وطلب اسعار الغرف ثم رجع الي اهلي وقال: ٢٠٠ ريال في الساعه؟! وبعد تشاور مع اخي الكبير قرروا ياخذون فيها قيلوله . فتوجه اخي لاداره المتنزه حتى يستاجر الغرفه لكنه رجع مسرع وقال: يقولون ٦٠٠ في الساعه وليس ٢٠٠!! … حكوا لي القصه بعد مارجعوا من السفر ، ولكن العجيب انهم امس تجادلوا هل هي ٦٠٠ في الساعه او في اليوم؟ انا هنا تدخلت وكنت واثق من انها ٦٠٠ في اليوم ووصفت لهم ما حدث وكاني كنت مسافر معهم!! فجأه قال الوالد انت كنت معنا اصلا؟! رد اخوي لا بس جالس يستهبل !!
سكت انا وخليتها على اني استهبل لكني كنت متحير لاني اذكر تفاصيل دقيقه لما حدث وكأني عشتها فعلا!! لدرجة اني شكيت ان الحادثه تكررت مرتين في عالمين متوازيين 🙂
أخي الكريم. .. شكرا لك على هذا الموضوع
فكما عهدتك مبدع. .. ولكن هذه المرة الأولى التي لم يكن موضوعك يخصني .. أعني انه من سابع المستحيلات ان تحصل لي هذه الأشياء. …
جزاك الله خيرا على هذا الموقع
Pony. ..