Uncategorized

SW064 لماذا نرى الأنماط؟

لماذا نرى الأنماط ؟

لماذا نرى الأنماط ؟ .. تحدثت في الحلقة السابقة عن التصنيف والجماعات من جانب علم الإجتماع، وبينت أن التصنيف له أهمية في حياتك الشخصية، ولكن بينت كيف أن هذا التصنيف الطبيعي الذي تعتمد عليه لحصول على الأمان وتفادي الأخطار يتسع ليصبح ضارا أحيانا في حال تفاعلك مع الجماعات الأخرى، وخصوصا أن من هذه التصنيفات بإمكان أن يتحول الشخص إلى متعصب بغض النظر عن الأسباب، وأنه – في الحقيقة – ليست الأسباب المنطقية هي وراء التعصب، بل هو الإنتماء للجماعة أي كانت، وبينت إلى أي مدى للجماعة من تأثير على الفرد، وكيف أن هذه الجماعة تؤثر على الفرد حتى لو كانت الجماعة على خطأ، وحتى لو علم الفرد بوجود ذلك الخطأ. كنت سأكمل الحديث عن الموضوع بحيث أنتقل للتصنيف من خلال المخ، وليس من خلال علم الإجتماع، ولكنني لم أستطع أكمل الموضوع بسبب تضييعي لبعض البحوث العلمية التي قرأتها، وعدم جمعي للمادة العلمية بشكل مناسب، لذلك قررت أن أصنع له حلقة خاصة في المتسقبل.

لا تنسى أن تدعم السايوير بودكاست من خلال Patreon، كن مع الداعمين.
Become a Patron!

في هذه الحلقة سأتحدث عن التنميط، وهو موضوع قريب من التصنيف، وسأتحدث عن إدراك الأنماط من خلال تجارب تمت على المخ، بحيث يمكننا فهم أنفسنا بشكل أفضل، من الواضح أن التصنيف عبارة عن تحديد نوع الشيء ووضعه في المجموعة التي ينتمي لها، وقد ضربت عدة أمثلة في الحلقة السابقة على التصنيف، وذكرت أنك تصنف الألوان مع بعضها البعض، والأشكال مع بعضها البعض، والحيوانات بأصنافها مع بعضها البعض، أنت تضع كل شيء في صنفه الذي يتناسب معه على حد علمك، والتنميط هي كلمة اخترتها لتسمية قدرة الإنسان على إدراك الأنماط أو تكوين أنماط حيث لا توجد، وربما ستتضح الصورة مع الوقت (والأنماط والتنميط – كما يبدو لي، مع العلم أنني غير متخصص في اللغة – أنه مثلما نقول:ونسق وتنسيق، أشكال وتشكيل، أنماط وتنميط، لا أعلم هكذا تبدو لي، ربما أكون مخطئا).

أولا ما المقصود بالنمط، النمط هو موضوع يتكرر فيه الشيء أو الحدث، والتكرار هنا يحدث بطريقة يمكن التنبؤ فيه، فمثلا أذكر لك الأرقام التالية، 2، 4، 6، 8، وأسألك ما هو الرقم الذي يليه، ستقول مباشرة 10، لأنك وجدت النمط في هذا التسلسل، وهو الأعداد الزوجية، أو أقول لك، 0، 1، 1، 2، 3، 5، 8، فتقول لي يأتي بعد ذلك الرقم 13، وهذه الأرقام معروفة على أنها أرقام فيبوناتشي (Fibnonacci numbers)، إن لم تكن تعرف هذا التسلسل للأرقام سابقا، ما عليك إلا أن تكتبها وتتمعن فيها لتجد النمط الذي تسير عليه هذه الأرقام، وببساطة، الرقم التالي هو حاصل جمع الرقمين السابقين، فحينما تبدأ بالرقمين 0، 1، سيكون حاصل جمعهما هو 1، فتصبح السلسلة 0، 1، 1، ثم تجمع آخر رقمين 1 + 1، ليكون عندك الرقم 2، ثم تصبح السلسلة: 0، 1، 1، 2، ثم تجمع 1 + 2، وتصبح السلسلة 0، 1، 1، 2، 3، وهكذا.

تسلسل أرقام فيبوناتشي ليست أرقام مجردة، وإنما كثير من الأشكال في الطبيعية تتماشى مع هذا التسلسل أو النمط، فمثلا الشكل الحلزوني لبعض القواقع يعتمد على الرقم الذهبي، والذي يرتبط بتسلسل فيبوناتشي، وكذلك توزيع بذور وردة عباد الشمس يتماشى مع التسلسل، وكذلك تفرع أغصان بعض الأشجار، وهكذا، وهذا ينطبق على ما يسمى بالفراكتلز (Fractals) أيضا، حيث أن الكثير من الأنماط تتبع هذه الأشكال المتكررة، أي أن هناك الكثير من النباتات التي تتبع هذه النَظْم، وحتى الغيوم، وتفرع البرق وغيره من الكثير من الأمور التي لا أستطيع أن أحصرها في البودكاست.

وتسلسل أرقام فيبوناتيشي والفراكتلز ليسا إلا نمطين من العديد من الأنماط الموجودة في الطبيعة، فالحمار الوحشي مخطط بطريقة معينة، والورود بأعداد بتلاتها، وذيل الطاووس بألوانه الزاهية، وحبات الثلج المتساقطة من السماء تتكون على شكل كريستالات هندسية رائعة، وبيت العنكبوت بشكله اللولبي، وتراب الصحراء المتموج، وبيوت النحل السداسية، هذه كلها لها أنماط مرئية، وهناك أنماط غير مرئية بشكل مباشر، مثل إشارات النحل لبعضها، وحركة انتشار المرض المعدي بين الناس، واللغة، وسقوط قطرات الأمطار، وحتى في حركة السوق بالنسبة للأسهم، وحتى توزيع الكلمات في الكتب، والكثير الكثير من الأنماط موجودة في الطبيعة.

التنميط

قبل أيام وأنا أفكر في موضوع الأنماط بعد أن خرجت من المحاضرة، صادف وأن رأيت طائرا ميتا على الأرض، له منقار أبيض ولونه يميل إلى الرمادي، اقتربت منه أكثر فأكثر وكلما اقتربت منه كلما بدا لي وكأن المنقار غير المنقار الذي أعرفه، وكأنه ملتو نوعا ما، وكلما اقترتب كلما تغيرت الزاوية التي رأيت فيها ذلك الطير الميت وكلما زاد اختلاف ذلك الشيء عن الطير، حتى إذا ما وصلت بالقرب اكتشفت أنه قطعة من قماش مرمية على الأرض والمنقار لم يكن سوى قطعة بلاستيكية متعلقة به. ماذا الذي حدث في هذا الموقف؟ حينما نظرت إلى قطعة القماش من بعيد فإني رأيت نمطا معينا، وتشابه ذلك النمط بشكله العام مع الطير، فقمت بتصنيفه على ذلك الأساس، ولكن مع الوقت وبقليل من التدقيق اتضح أن الطير ليس بطير وأنه مجرد قطعة من قماش.

لم يكن هذا الموقف فريد من نوعه، بل أنا معتاد على هذا الشيء بشكل شبه يومي، حتى أنت تلاحظ أنك تبحث عن الأنماط وتقوم بالتنميط، ربما أكثر الأشياء التي يقوم الناس بتنميطها هي الوجوه فمثلا الكثير من الناس يرون وجوها في التشكيل العشوائي للسيراميك، أو وجوها في الدخان (وحتى الدخان في هجمة 9/11 رأى الكثير من الناس وجه الشيطان فيها، وهناك عدة لقطات تبين هذا الشيء في اليوتيوب) أو وجوها في السحاب أو أوراق الأشجار الكثيفة، أو حتى في القمر والمريخ، حتى أنه في فترة نشر على الإنترنت أن وجه صدام حسين شوهد على القمر، وليس ذلك مخصوصا في العرب، بل إن العالم كله يرى وجوها وأشكالا عديدة على القمر، فمنها الوجهة لذكر ولأنثى، وأيضا لأرنب وضفدع وهكذا ، أو حتى مشاهدة لأسماء شخصيات دينية شوهدت على سطح القمر.

أتذكر كنت أتمشى في منتزه في غابة في الولايات المتحدة الأمريكية، فرأيت مجموعة من الشباب والبنات ينظرون إلى السماء، فتوقفت بالقرب منهم، ونظرت معهم إلى السماء لأرى ما يرون، فلم أجد سوى السحاب، فقال لي أحدهم ألا ترى الملائكة؟ فنظرت مرة أخرى باستغراب، وقلت في نفسي، “ما دخل شكل الملائكة بماء متبخر؟” وألحوا علي أن ما يرونه إنما هو حقيقة: “أنظر هنا، إنظر هناك” وهم يشيرون بأصابعهم إلى “الملائكة”، أو مثلا هناك من يرى وجه النبي عيسى (ع) في قطة خبزة، كما حدث وأن بيعت قطع من الخبز والجبن التي عليها هذه  الأنماط بآلاف الدولارات، ربما تضحك من تصرفاتهم لأنهم من المسيحين، فنحن أفضل من ذلك، نحن نعتمد منطق، صحيح؟ ولكن أنظر حولك ستجد نفس المشكلة، فستجد على الإنترنت الكثير من المواقع التي تبين كيف أننا نبحث عن الأنماط في الطبيعة، والأمثلة على التنميط كثيرة، فمنهم من يرى نقش كلمة الله بالخط الثلث على بقرة، وستجد النقشة نفسها على خبزة وعلى حمامة، وغيره من الأمور، وكذلك من وجد شجرة راكعة، لو نظرت لها بانت وكأنها رجل في حالة الركوع، وكذلك من يدعي أن الأسد في أحد حدائق الحيوان حينما يزأر فهو يقول: “الله”، وهكذا.

لماذا نرى الأنماط

ما الذي يحدث بالضبط في هذه الحالة، لماذا نرى هذه الأنماط في الطبيعة؟ هل هذه طبيعة بشرية أن نكتشف هذه الأشياء أم أنها فعلا هذه الأنماط حقيقة؟ وأنها ربما معجاز أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفت انتباهنا لشيء معين؟

ماذا يقول العلم في التنميط؟

في سنة 1959 قام العلمان ديفيد هيوبل David Hubel [1]David Hubel ، وتورستن فيزل Torsten Wiesel [2]Torsten Wiesel بتجربة القطة، والتجربة هذه أثرث كثيرا في العلم المرتبط بمعالجة المعلومات الحسية، حيث أدخلو قطب كهربائي ميكروسكبي بداخل مخ قطة قد تم تخديرها، وأدخل القطب تحديدا في القشرة البصرية الأولية أو الرئيسية (Primary Visual Cortex)، ووُجّه رأس هذه القطة إلى شاشة للنظر إليها،  ثم قاموا بعرض أنماط من الأضواء على شاشة أمام هذه القطة، ولاحظوا أن بعض الخلايا العصبية بدأت بأطلاق إشارات بسرعة كبيرة حينما قام العالمان بتحريك الضوء إما أفقيا أو رأسيا، وحينما تم تغيير زوايا خطوط الضوء أطلقت خلايا أخرى إشارات معلنة عن تلقيها لتلك الأضواء، وهكذا أيضا بالنسبة لإسقاط نقاط مظلمة على الشاشة، كانت هناك خلايا متخصصة تستقبل هذه الأنماط، وأسما العالمان هذه الخلايا بالخلايا البسيطة، وهناك أيضا ما أسموه بالخلايا المعقدة، وهي الخلاية من التي لها القدرة على اكتشاف حواف الأجسام، وكانت لهذه الخلايا أيضا القدرة على إلتقاط الحركة – حركة الأجسام، فبينت هذه الدراسة وجود خلايا متخصصة في تمثيل معقد لأشكال بسيطة، هذه الدراسة لم تكن دراسة عادية، بل كانت بدرجة من التأثير في الأوساط العلمية إلى الحد الذي حققت لهما الفوز بجائزة النوبل في سنة 1981.

لاحظ معي نقطة مهمة هذه الخلايا لم تستجب إلا لخطوط بزوايا معينة، ويقول ديفيد هيوبل في مقابلة موجودة على اليوتيوب [3]Hubel’s research : “من الممكن أن يكون خطا مضيئا أو خطا معتما أو حدا بين مضيء ومعتم، أي نوع من الخطوط حقيقة يعمل بشكل عام، ولكن موقع الخط واتجاه الخط مهمان بدرجة رهيبة، وإن لم تكن بالضبط صحيحة، فإن أي خلية على حدة لا تستجيب”.

 وأقيمت هذه التجارب أيضا على القردة وأدت إلى نفس النتائج [4]Recounting the impact of Hubel and Wiesel ، وأهمية التجارب على القردة تعود لكون القرد قريب من الإنسان من حيث تركيب النظام البصري، فتبين أنه حتى حينما ينظر القرد إلى أنماط معينة من الأضواء فإن خلايا مخه العصبية تطلق نفس الإشارات وإن لم يوضع تحت التخدير (فإذا ما كان هناك شكا في أن للتخدير تأثيرا زال ذلك الشك، واتضح أن هذه طبيعة الخلايا العصبية في إطلاقها للإشارات في حال وجود أنماط)، إذن، إدراك الأنماط إنما هو شيء مبني في المخ مباشرة كما في اللغة الإنجليزية (Hardwired)، أي الخلايا تم لحيمها في المخ هكذا. [5]Hubel and Wiesel Cat Experiment

ما هي فائدة التنميط، أو قدرة الإنسان على إدراك الإنماط؟ حينما تستمعين لصوت الطفل الرضيع وهو يبكي، بداية ربما لا تعرفين ما إذا كان الطفل يشعر بالجوع أو أنه به ألم أو مرض أوبحاجة لعطفك وحنانك، ولكن مع الوقت ستكتشفين أنماط البكاء ومع الوقت ستشتعرين بحالة الطفل،  وستعرفين فيما لو كان جائعا أو متألما أو مريضا أو بحاجة للحنان، أنت تستخدمين قدرتك على التنميط للتبؤ بحالة معينة، ومن الممكن أن ما إذا ما كنت تتعاملين مع البورصة أو سوق الأسهم، فإنك تعتمدين على تحرك السوق بطرقه مختلفة للتنبؤ بحالة السهم المستقبلية، بطبيعة الحال هذه الأنماط قد لا تكون دقيقة، فقد يختلط شيء من العشوائية مع النمط ويخل بذلك التوازن في معرفة المستقبل، حتى في حالة الطفل، قد لا تعرفين إذا ما كان طفلك فعلا مريض أو جائع لوجود بعض الشوائب في صوته المحشرج، ولكن ربما لا تجد تلك العشوائية في تسلسل أرقام فيبوناتشي، حيث أن الأمر دقيق في تلك الحالة، فالرقم التالي هو حاصل جمع الرقمين السابقين، ومعرفة الرقم التالي المستقبلي لا تشوبه أي شائبة.

ومن الناحية العلمية، واحدة من أهم الطرق التي نعتمد عليها لاكتشاف النظريات العلمية هي الأنماط، ولولا اتباع الأشياء لأنماط معينة لكان بالتأكيد من المستحيل تكوين نظريات تتنبأ بطريقة عمل شيء معين، فشروق الشمس من المشرق، وغروبها في المغرب حالة تتكرر باستمرار، ومنها عرفنا القوانين التي تربط دوران الأرض بذلك الشروق والغروب، وكذلك القدرة على التنبؤ بالكسوف والخسوف وإن لم تتكرر هذه الحالات بكثرة، ولكن اعتقادنا بأنها تتكرر أدى إلى محاولة لبحث العلماء عن قانون يكشف لنا وقوع الكسوف في المستقبل، وكذلك في الزراعة، حينما نزرع الورود فإننا نزرعها في فصل نتوقع فيه أن تعيش فيه هذه الورد فترات طويلة، وحتى في حركة تموج الماء، فالأمواج تتحرك بأنماط معينة، وحتى في أشكال تفرع أغصان الأشجار، وجد العلماء الأنماط التي تتبعها تلك الأغصان في تفرعها، وقس على ذلك تقريبا كل شيء في العلم التجريبي، وربما من أغرب الأشياء في عالم الأنماط هو تنميط العشوائية أو إدراك وجود أنماط في العشوائية، فهناك من القوانين الكثيرة في الطبيعة والتي تبدو لنا وكأنها عشوائية، ولكن بالتنميط نستخرج منها نظاما متكاملا، ولذلك تجد علما كاملا بنظريات متكاملة وتبدأ بشكل بسيط وتنتقل للتعقيد الهائل، واسم هذا العلم المتغيرات العشوائية (Random Variables) والعمليات العشوائية (Random Processes)، وهي تستخدم اليوم في وسائل الإتصالات بشكل أكاد أقول عنه أنه خرافي.

نشر بحثا في مجلة النيتشر لثلاث علماء، في مقدمتهم سكوت هيوتل (Scott Huettel) عن إدراك الأنماط في تسلسلات عشوائية، وفي هذا البحث استخدم الرنين المغناطيسي الوظيفي (إن صح التعبير) أو فانكشونال إم آر آي (fMRI)، كما هو معروف هذا الجهاز يصور تغير تدفق الدم، وهو أكثر الوسائل استخداما لدراسة المخ، فاكتشف العلماء أنه حينما يعرض على الأشخاص الذي يتم اختبارهم تسلسلا عشوائيا، وقيل لهم أن التسلسل عشوائي وأنه لا حاجة للمتطوعين للتجربة أن يبحثوا عن أنماط حيث لا وجود لها ولا فائدة من البحث عنها، مع ذلك أبلغ الكثير من المتطوعين بأنهم أنه بالرغم من علمهم بعشوائية تلك التسلسلات إلا أنهم لاحظوا أنماطا معينة،أي أن مخ الإنسان يرغمه على رؤية النظام في العشوائية – كما صرح العلماء في ذلك البحث، وصرحوا أيضا أن تنميط الأشياء يحدث من غير أي جهد متعمد، أي أن المخ يبحث عن النظام وعن الأنماط وإن لم تكن هذه الأنماط موجودة، وقد لاحظ هيوتل وزملائه أن هناك منطقتين في المخ واحدة اسمها نيوكليوس أكامبنس (Nucleus Accumbens) وهي في أسفل مقدمة المخ، والأخرى أنتيريور سينجيوليت (Anterior cingulate)، في وسط مقدمة المخ، وهاتين المنطقتين تشتعلان بالدم حينما رأيى المتطوعين تكرار في نظام معين أو في العشوائية، خلاصة الموضوع أنك لا تستطيع أن لا ترى الأنماط وإن حاولت، كما أنك لا تستطيع أن توقف ضربات قلب وإن أصريت على ذلك.

التنميط والسيطرة

أحد الأبحاث التي نشرت حول موضوع إدراك الأنماط الوهمية نشرت في مجلة الساينس (وقد ذكرت كثيرا ما لمكانة مجلتي النيتشر والساينس في العالم العلمي)، حيث قامت العالمة جينيفر ويتسون (Jennifer Whitson)، وآدم جالنسكي (Adam Galinsky) بدراسة مكونة من 6 تجارب على مجموعة من الناس تبين فيها أن فقدانهم للسيطرة يزيد من إدراك الأنماط الوهمية، أي أنه حينما يفقد المتطوعين للتجربة قدرتهم على السيطرة فإنهم يلجؤون إلى إيجاد روابط بين أشياء لا رابط بينها وعلاقات ذات معنى من غير أن يكون هناك أي معنى حقيقي في هذه العلاقات، كل ذلك حتى يسترجعوا قدرتهم على السيطرة، مثال على تفسير الشخص أحداث عشوائية على أنها نمطية من غير أن تكون فعلا نمطية هي بعض الخرافات، فمثلا تخيل أنك دخلت إلى رئيسك في العمل في اليوم الأول، وبجيبك ريشة، وحينما طلبت منه طلبا قبل لك الطلب بلا تردد، في اليوم التالي نسيت الريشة في المنزل، وإذا برئيسك بالعمل يرفض لك طلبك، وفي اليوم اللذي يليه أحضرت الريشة معك وإذا بطلب آخر يتم تنفيذه، ما يحدث مباشرة أنك تربط ما بين الريشة وتنفيذ الطلبات، وستجد نفسك حاملا لتلك الريشة كلما دخلت على رئيسك في العمل آملا في أن يتكرر النمط، لماذا؟ لأنك ببساطة تحس أن لا سيطرة لك على تلك الطلبات، فتلجأ إلى أنماط وهمية.

في إحدى التجارب عرضت العالمة جينفر والعالم آدم صورا منقطة عشوائيا للمتطوعين، وفي هذه الصور أضافت آثارا لصورا حقيقة، لو تمعنت في تلك الصور للاحظت تلك الآثار للصورة الحقيقة ولميزت وجودها، حينما رأى المتطوعين الصوراستطاع بعضهم أن  يميز تلك الصور، ولكن البعض الآخر لم يستطع تمييزها، بعد ذلك أرت جميع المتطوعين صورا منقطة عشوائيا لم يكن فيها أي أثر لصور حقيقة، فلاحظت أن الذين لم يستطيعوا أن يميزوا الصور الحقيقة في التجربة الأولى عوضوا ذلك النقصان بتكوين صورا أكثر  من المتطوعين الذين ميزوا الصور الحقيقة سابقا.

Snowy-images.jpg

ثم طلبت من كل شخص في مجموعة أخرى من المتطوعين أن يتخيل أنه مدير تسويق في شركة، وأنه قبل أن يدخل في اجتماع يضرب رجله بالأرض ثلاث مرات، وأنه كلما فعل ذلك نجح في أن تتقبل أفكاره في ذلك الإجتماع، وطلبت من بعض الأشخاص أن يتخيل أنه في يوم من الأيام نسي أن يضرب رجله بالأرض ثلاث مرات، ودخل الإجتماع وإذا بأفكاره لا تقبل، من خلال هذه الخيال أراد العالمين أن يفقدا قدرة بعض المتطوعين على السيطرة، وحينما شاهد المتطوعين صورا عشوائية، لاحظ العالمان أن المتطوعين الذين فقدوا السيطرة شاهدوا أنماطا أكثر من الذين لم يفقدوا السيطرة.

وقام العالمان بعدة تجارب أخرى بينوا فيها تأثير فقدان السيطرة على إيجاد أنماط حيث لا توجد، وأن هذه الأنماط ترجع إلى ثقة الشخص في نفسه وقدرة على التحكم بعد أن يفقد تلك القدرة، حينما يتغير العالم أمامك بطريقة غير متوقعة وغير قابلة للتبؤ ستقوم بإرجاع عالمك إلى وضعه المتوقع الطبيعي، كم من مؤمرات مفربكة طويلة عريضة قمنا بنتميطها في حادثة 9/11، كم من نظرية تآمرية نسجناها حينما تدهورت حالة العالم الإقتصادية، ما عليك إلا أن تنظر في حالة العالم العربي الثورية الإنقلابية لتلاحظ أن كل شخص لديه تفسير لأمور متفرقة حدثت ويطرحها عليك بصورة مترابطة نمطية؟ إيجاد الأنماط حيث لا نمط طبيعة بشرية ملازمة للمخ لها علاقة بالسيطرة ولا مفر منها.

ما الفائدة؟

ذكرت في السابق أن لإدراك وجود أنماط في الطبيعة فائدة كبيرة، فيحتاج العالِم أن يلاحظ الأنماط حتى يفكر فيها ويستنبط قاعدة عامة يستطيع من خلالها التنبؤ في المستقبل (مثل قوانين نيوتن للحركة، وقوانين آينشتين للنسبية، وقوانين ماكسويل للكهرومغناطيسية)، يقول جاليلو جاليلي: “الفلسفة مكتوبة بهذا الكتاب العظيم، الكون مكتوب بلغة الرياضيات، وحروفه المثلثات والدوائر وأشكال هندسية أخرى” ، وحياتنا مليئة بالعلوم التي اعتمدت هذه الطريقة في التفكير والتنميط ورؤية واكتشاف حروف الكون من مثلثات ودوائر وباقي أشكاله الهندسية، ولكن هناك الجانب الآخر من التنميط الذي يحتاج أن نضعه تحت الإختبار، فليس كل ما نراه على أنه نمطا يحمل معنى مفيدا.

حينما نتكلم عن رؤية وجه في قمر أو كلمة “الله” على شعر بقرة أو صورة النبي عيسى على الخبز أو شجرة راكعة أو وجه الشيطان في دخان حريق مركز التجارة العالمي، كل هذه، هل هي أنماط فعلا موجودة؟ وهل لها دلالات من الممكن الاستفادة منها؟ هل أستطيع أن أقول أن الوجه على القمر دليل على إتيان فضائيين إلى القمر، ورسمهم لذلك الشكل، وبهذا أستدل على أن هناك فضائيين؟ أو هل أستطيع أن أقول أن الشجرة الراكعة دليل على أن هذه الشجرة مطيعة لله فهي معجزة، فإذن ماذا أقول عن باقي الأشجار التي من طبيعتها أن تتجه للسماء لتقف باستقامة، هل كل تلك الأشجار غير مطيعة، (ماذا عن الطفل الذي تظهر على جسده آيات قرآنية مكتوبة باللغة العربية ومشكّلة، ، وفي كل جمعة تظهر آية جديدة أو حديث،  بصراحة أنا أتخوف على صحة ذلك الطفل، ولربما من خلال إعتقادنا بأن هذه معجزة نغفل الجانب الآخر وهو أن هذه الجروح قد يستبب بها أبويه، وبما أنه طفل فهو ضعيف فلا يستطيع أن يدافع عن نفسه، حتى أن أمه تقول أن طفلها يشعر بتوعك وترتفع حرارته كلما ظهرت هذه الآيات، لا أعلم إن كان أحد أبويه يستخدم مواد كيميائية للكتابة على رجل الطفل، وبذلك يشعر الطفل بتوعك وترتفع حرارته، أو أنه يخدش جسده، لا أعلم، ولكن أعلم أنه حصل الأبوين على ما تمنوه: 2000 زائر يوميا، قلبي مع هذا الطفل).

حينما تواجه نمطا معينا، لابد أن لا تسأل ما إذا كان النمط فعلا صحيح، فلابد أن تتحقق ما إذا كانت الأرقام دقيقة، كم من إيميل وصلني يدعي أن أرقاما معينة تتبع نمطا معينا، ولكن بقليل من التحري أكتشف أنها لا تتبع أن نمط، بل أن معضمه إن لم يكن كله تلفيق، ثم تسأل ما إذا كان النمط يتناسب مع افتراضك، بل لابد أن تسأل ما إذا كانت هناك أشياء تتعارض معه،  العلم لا يعمل فقط فيما يوافق فرضيتك أو نظريتك، بل العلم يعمل حتى بما لا يوافقها، فلو وجدت أرقاما تثبت إدعائك في شيء معين، لابد أن تتحقق من عدم وجود أرقاما أخرى تدحض الإدعاء، فلا يمكن أن تدعي أن الريشة التي في جيبك تجعل رئيسك في العمل يستمع لطلباتك، من المفروض أن تحسب عدد المرات التي دخلت على رئيسك بالعمل مع الريشة ولم يستجب لرأيك، وإن وجدت أن احتمال تلبية طلباتك هي 50 بالمئة إذن، وجود الريشة في جيبك كحال عدم وجودها.

إذن، إبحث عن الأنماط، ولاحظها، الكون مليئ بالأنماط، حياتك كلها تدور حول الأنماط سواء أكانت مرئية أو غير مرئية، مباشرة أو غير مباشرة، أنت تحتاج لإدراك الأنماط لتتعامل مع بيئتك، أنت لا تستطيع أن لا تنمط، لكن بعض الأنماط تحتاج لأن نعرضها للبحث العلمي الدقيق، فلربما أن نجد علما نافعا، أو ندحض كذبة ضارة. [6]satan’s face? I saw 2 teddy bears at WTC 9/11

201107131259

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. ياااااااااااااااه.. فين حضرتك من زمان يا دكتور.. اتأخرت علينا جدا

    انا عرفت مدونتك من قريب.. مفيش شهر ونص.. بس استمعت لاغلب البودكاست الخاص بيك..

    شكرا لوجودك.. شكرا لتعبك..

    تقبل تحياتي

  2. السلام عليكم دكتور مبارك عليك الشهر
    أحب اشكر جهودك الطيبة وتشكرا عليها كثيراً وانا من معجبينك دكتور
    بس في مشكلة عندي بخصوص موضوع الانماط الظاهر التسجيل مو نازل بالكامل لان جربت التشغيل بس لمدة اربع دقايق بعدين ماكو انقطع
    وشكراً دكتور وتفضل بقبول تحياتي الطيبة لك واعانك الله على صيامك وقيامك وبارك الله فيك

    أخوك الصغير مشاري الرشيدي

  3. آسف دكتور المشكلة طلعت من عندي الظاهر فصل وشبك وانا ما انتبهت

    بارك الله فيك وبججهودك الطيبة وكلمات الشكر ما توفي حقك

    تقبل تحياتي العطرة اخوك الصغير مشاري الرشيدي

  4. Incredible! The part where you link two unrelated events together because one of them seems to cause the other actually happens to me all the time when I feel I want to have control over things. It’s slowly driving me crazy!

  5. “حتى أنه في فترة نشر على الإنترنت أن وجه صدام حسين شوهد على القمر، وليس ذلك مخصوصا في العرب”

    وفي المغرب أيضًا في فترة الخمسينات من القرن الماضي، يقال أنه تمت مشاهدة وجه ملك المغرب في ذلك الوقت (محمد الخامس) في القمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى